من كان شبيهاً بالأنبياء! أبو بكر يعلمّنا.
ماذا علمّنا أبو بكر؟
علمنا أبو بكر أنّ رقة القلب وطيبته لا تعني الضعف، فهاهو أرّق الناس قلباً ومعاشرة و كان الأطفال يركضون إليه حين يلمحونه وينادونه أبتِ حتى يربت على رأسهم! أبو الأيتام وكفيل الأرامل ومن كان يحلب لهم الشاة حتى بعدما أصبح الخليفة! هو الذي قالت عنه عائشة عندما أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول له أن يؤم الناس بالصلاة :" إن أبي رجل أسيف أخاف إن وقف بمقامك أن يبكي ويُبكي من حوله!"
كان دائماً يميل للخيار الألين، فهاهنا في حادثة أسرى بدر حين لم ينزل حكمٌ للنبي فقرر استشارة أصحابه، فأخذ عمر بالخيار الأشد وهو القتل، بينما يخالفه أبو بكر ويرجح الفداء.
رقته تلك التي جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يشبهه بالنبي إبراهيم حين قال "فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" وعيسى حينما قال "إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"
رحمته التي جعلت قريشاً كلما مر أحد منها بضائقة مالية عذّب عبده أو أمته حتى يصل الخبر إلى أبو بكر فيشتريهم منه.
رحمته التي جعلت خير البشر يقول عنه "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر" ،رقة قلبه التي جعلته كثير البكاء في الحزن والفرح ودمعته تسبق لسانه.
حينما أُذن للنبي ﷺ بالهجرة وجاء متعمماً لبيت أبي بكر يبشرّه، قال له أبو بكر: الصُحبة يارسول الله؟ قال الرسول: الصُحبة يا ابا بكر، فبكى أبو بكر حتى اخضلت لحيته، وقالت عائشة رضي الله عنها "لم أكن أدري أن احداً يبكي من شدة الفرح حتى رأيت أبي يوم الهجرة".
والمواقف على هذا لاتنتهي،لكن بسببها قد يخيّل إلى البعض أنه ضعيف أو مجرد رحيم رقيق على الهامش لا حيلة له بالقيادة والقوة والحزم،ولا أعلم لمَ دائماً تُربط الرحمة والرقّة بالضعف، فإنها من شيم الأقوياء ومن أنعم الله عليهم و الله آتاهم هذا الحظ.
أبو بكر أفضل الناس بعد الأنبياء وهو في مرتبة الصدّيقين ففي دعائناً "اللهم اجعلنا مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين" يأتي بعد مرتبتهم.
أبو بكر الذي قال عنه النبي ﷺ "ما لأحد عندنا يدًا إلا وقد كافأناه ،ماخلا أبو بكر فإن له عندنا يداً يكافئها الله بها يوم القيامة" و " لو كنت متخذاً خليلاً لأتخذت أبا بكر خليلاً"
هو صاحب الغار وثاني اثنين والصدّيق والأتقى.
لنرى معاً أبا بكر الصنديد الحازم الثابت كالجبل الشامخ، لنرى معاً بماذا فضلهم أبو بكر؟ وبماذا تقدم عليهم حتى ظهرت أمارات توليه الخلافة قبل أن يتوفى محمد ﷺ ؟
الجميع يعرف فضله بالعطاء والصُحبة والتضحية والإيثار،لكن ماذا عن إيمانه الذي وقر بقلبه؟إيمانه الذي كان منبع قوتّه والذي لا يهتز، إيمانه بالله وبمبادئه الحقّة التي لا يستطيع أحد أن يهزّها أو يشوبها الشك، ولذلك سمّي الصديق، إيمانه ذاته الذي جعل عُمر يراجع الرسول في صلح الحديبية ويقول ألست رسول الله وألسنا على الحق؟فلمَ نعطيهم الدنية في ديننا؟فيجاوبه نبي الله بلى ولكني عبد الله ورسوله ولن يضيعني الله ابداً، ثم يذهب عمر لهذا الرجل، هذا الذي لو وزن إيمانه مع إيمان الأمة جميعاً لرجحت كفتة إيمانه، فيسأله عمر كما سأل رسول الله فيقول أبو بكر بفؤاد مطمئن: بلى إنه لرسول الله وإنه للحق ولن يضيعه الله ابداً! فإنشرح صدر عُمر وندم على ماقال وظل يصوم ويتصدق بغية كفّارة كلماته تلك! ولا غرو فهو أبو بكر الذي حينما وقف المسلمون حول النبي في تردد وشك بعد خبر الإسراء والمعراج وبين ضحكات وسخرية المشركين وتوقعهم أن يرتد أبو بكر. كيف لا وهو التاجر الذي يعلم حق العلم بالمسافة بين مكة والشام؟كيف سيصدق أن محمداً قد ذهب وعاد في ليلة؟لكن هيهات..هم لم يعرفوا أبا بكر حقاً لم يعرفوا ما وقر في صدره ، جاءوا ليسخروا ويشهدوا ردته لكن كان رده كالصاعقة عليهم" إن قال فقد صدق، وكيف لا أصدقه وقد صدقته بأكبر من هذا؟خبر السماء يأتيه" وذهب راكضاً لحبيبه يعانقه ويفتديه ويخبره بأنه صادق!
أبو بكر من النوع ذاك القوي في الحق فبمجرد أن يؤمن بشيء يصبح قوتّه ويموت دفاعاً عنه ولو تخطفته الذئاب! شبيهٌ بعمر بهذه الناحية فكلاهما قويّان بالحق ولا أحد يستطيع زحزحة إيمانهم بعد أن خالط قلبيهما بالبرهان وعرِفا الحق.
وحينما انهار الجميع لخبر موت حبيبهم محمد رسول الله ﷺ في موقف تخّر له الجبال، وعمر القوي الشديد الحازم الغليظ واقفٌ يهدد الناس بأنه سيقتل من يقول إن رسول الله مات، وأنه ذهب إلى ربه وسيعود كما عاد موسى، وجاء أبو بكر الرقيق الأسيف ، أبو بكر أقرب الناس وأحبهم إلى النبي، الذي صاحبه من شبابه وكان ملازماً له كظلّه؛ الذي تركه في صبيحة ذلك اليوم وهو بأحسن حال، دخل وقبّل رأس حبيبه وقال"طبت حياً وميتاً" وخرج يمسك زمام الأِمور فقال لعمر أن يتوقف ويجلس، وعُمر مصرٌ على موقفه، فقام أبو بكر وخطب بالجملة التي هزت الأرجاء،وقف شامخاً بيقين وإيمان يكفي كل من في الأرض قائلاً" من كان يعبد محمداً فإن محمداً مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت! ثم تلى آية " ومامحمد إلّا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" فسقط في يدي عُمر وجثا على ركبتيه ولم يقدر على الإنكار، وكأن الناس قد سمعوا هذه الآية لأول مرة ،فهذا الرقيق الأسيف نحيل الجسد ثبَت وثبّت، ولولا الله ثم أبو بكر لأخذت الفتنة بالمسلمين وربما لم يصلنا الإسلام وينتشر كما هو منتشرٌ اليوم!لكن الله حافظٌ دينه برجال ومنهم أبو بكر! فهاهنا وقد خرج من خرج يقول إنه نبي، وقبائل حول المدينة ترفض أن تُعطي الزكاة ويجيئون ليخبروه بأنهم لن يعطوه ماكانوا يعطونه لرسول الله،فيغضب أبو بكر كما لم يغضب قبل ويرفض طلبهم، ويشاوره الصحابة وعمر الشديد يلين ويخبره أن يلاينهم حتى يثبت الإيمان في قلوبهم، ولأن المدينة في خطر، فالقبائل حولها وجيش المسلمين خرج للشام فأبو بكر أرسل بعث أسامة ونفذ وصية الرسول قبل مماته رغم الخطر، وحينما راجعه الصحابة في ذلك غضب وقال : والله لا أمنع شيئاً أمر به رسول الله! ولو تخطفتني الذئاب لم أرد أمر رسول الله!وكم كان ذا حنكة وحِكمة وقوة وبأس شديدين في قراره، فقد جعل من أراد الإرتداد أن يتراجعوا حينما رأوا الجيش يخرج والمدينة خالية فقالوا والله إنهم لا يخشون شيئاً! فزادت هيبتهم وانبث في قلوب المترصدين الرعب.
وأبو بكر يغضب ويقول لعُمر رضي الله عنه: أجبّار في الجاهلية خوّار في الإسلام؟والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة!ولو منعوني عقالاً كانوا يعطونه لرسول الله لقاتلتهم عليه، فانشرح صدر عمر وعرف أنه الحق.
وخرج الشيخ الذي تجاوز الستين من عمره يحمي المدينة بنفسه يقود الجيش المكون من الصحابة المتبقين في المدينة ويصد هجمات المرتدين بنفسه! ويعود بعث أسامة فيرسل الجيوش للمرتدين في اليمن واليمامة، فماكان إلّا أن أتى الكل صاغرين له وكل من كان في قلبه مطمع للمُلك والدنيا وحنين الجاهلية زال بفضل شدة وقوة وإيمان أبي بكر! وقد روى أبو رجاء البصرى فقال: «دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين ورأيت رجلاً يقبل رأس رجل ويقول له: أنا فداؤك ولولا أنت لهلكنا. قلت: من المُقبِّل ومن المَقَّبل ؟ قالوا: هو عمر يقبل رأس أبى بكر فى قتال أهل الردة الذين منعوا الزكاة حتى أتوا بها «.
فلهذا الرجل العظيم شرف إخماد فتنة من أعظم الفتن! هذا الرجل الذي كان يخرج بنفسه يواجه ويخطط ويرسل الجيوش ويؤمن مستقبل الإسلام خلال سنتين وبضعة أشهر! كان رجلاً بألف رجُل، كلا بل أُمّة كاملة، فبالشدائد يُعرف الرجال؛ وبالمصائب تظهر حكمتهم؛ وأبو بكر جمع هذا كله فكان خير الناس بعد الأنبياء.
ولا ننسى مواقفه البطولية في الغزوات،فقد ثبت بأحد حينما انفضّ المسلمون وراح يشهر سيفه، حينما ذيع خبر أن الرسول مات في أُحد ثبت وذهب يحمي الرسول بنفسه، ثبت في حُنين، ثبت في الخندق.
وكيف يكون من يترك بلده ويخرج مع رجلٍ مطلوب من قريش ضعيفاً ؟ أي قوة وضعها الله في قلب أبي بكر؟أي قوة تلك التي جعلته في أشد مواضع الخطر تاركاً بلده بقلب مطمئن وعيون باكية من الغبطة وكأنمّا بُشر بالجنة؟ ولا يهمه سوى أمان الرسول وراحته، ولا يخفى على أحد موقف الغار، كيف يخاف من قال له خير البشر لاتحزن إنّ الله معنا؟كيف وقد روى روحه من روح القرآن وروح حبيبه مُحمد، كيف وهو الذي رفض أن يسجد لصنم من صِغره! نحن أمام شخصية عظيمة من كل الجوانب، فعبد الله بن أبي قحافة كان خير مؤمن، سخي اليد، عظيم الرحمة، عظيم الخشية، بطل مجاهد، له رؤية بعيدة المدى، ذكي وذو حنكة وحكمة، قوي في الحق وشديد الغضب لله، صاحب أعلى درجات الوفاء، فهاهنا ورسول الله يخطب في مرضه ويقول :إن الله خير عبداً بين الدنيا وماعنده فاختار ماعند الله. ولا أحد فهم مقصده فقاطع سكوتهم بكاء شيخ يقول: نحن فداك يارسول الله!. فكان العبد رسول الله ﷺ وكان أبو بكر أعلمهم! وحينها قال حبيبنا الحديث المشهور لو كنت متخذاً خليلاً...
هذا الرجل الذي نزلت عليه من المصائب لو نزلت على جبل لتفتت كما قالت ابنته عائشة "توفي رسول الله وارتدت العرب واشرأبّ النفاق ونزل بأبي ما لو نزل بالجبال لهاضها" لكنه كان أُمّة بأكملها.
كان الصحابة من بينهم عُمر يسابقونه بالخيرات فيجدون أبا بكر أسبقهم، حتى استسلم عُمر وقال والله لا أُسابقك بعد اليوم أبداً ! هذا الرجل العظيم الذي قال عنه عُمر " أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا-يقصد بلال-"
هذا الرجل الذي أرسله النبي أميراً على العُمرة، وأمر أن يصلي بالمسلمين وأصّر على جعله يصلي بهم رغم إعتراضات عائشة وإعتراضاتها كانت لأنها تخشى أن يبكي ويُبكي الناس، وقفل جميع أبواب المسجد ماعدا بابه،وكانت هذه من أمارات خلافته.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أيها النَّاس، أخبروني بأشجع النَّاس، قالوا: لو قلنا أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أخبروني بأشجع النَّاس؟ قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر الصديق، إنا لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشًا فقلنا: من يكون مع النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرًا بالسيف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يهوي إليه أحد إلا هوى إليه، وهذا أشجع النَّاس، قال علي: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش فهذا يجؤه، وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، قال: فوالله ما دنا منه إليه أحد إلا أبو بكر، يضرب هذا، ويجأ هذا، ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، ثم رفع علي بردة كانت عليه فبكى حتى أخضل لحيته، ثم قال علي: أنشدكم الله، أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر ؟ قال: فسكت القوم، فقال: ألا تجيبوني ؟ والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض مثل مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه).
وها هنا قبل موته يرسل الجيوش للشام والعراق التي كانت تهدد أمن المسلمين وتريد الإستيلاء عليهم، فيكون أول ممهد للفتوحات التي أكملها عمر رضي الله عنه.
ولم يرى الناس يوماً أشد حزناً على المدينة كوفاة الرسول ﷺ ووفاة خليفته رضي الله عنه.
((وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))
سماك الله تقياً وصديقاً وثاني اثنين، وعاتب جميع الناس وخرجت من العِتاب، فطبت حياً وطبت ميتًا، وسلامٌ عليك يوم تبعث حياً، جزاك الله عن الأمة الإسلامية خيراً، فلولا الله ثم أنت لضعنا، ولا يتكرر أبو بكر، اللهم احشرنا في زمرته واجمعنا به في جنتك.
تعليقات
إرسال تعليق