الإنسانوية.. مركزية الطاغوت المتأنسن.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الإنسانوية.. مركزية الطاغوت المتأنسن.

 

{ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ} [طه: ١٢٠]

{ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}[يس: ٦٠- ٦١]

لنرجع إلى الوراء قليلاً.. المعذرة بل كثيراً جداً.. ها نحن ذا في الجنة التي لا تعب فيها ولا شقاء، هنا آدم عليه السلام، من حمل الأمانة، ومن رأى عدوه الأول والأخير وعرف مقته وحسده ووعيده لآدم وذريته من بعده، ها هو ذا رغم كل هذا النعيم يستمع لوسوسة الشيطان وقوله "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟" ويزِل، ولكن آدم تاب وعاد إلى ربه.. ماذا عنَا؟ هل سنترك الصراط المستقيم ونعبد الشيطان؟

إخوتي..العبادة لا تعني فقط أن تسجد وتركع، هاهنا الله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: ٢٣] هاهنا بعض البشر يعبدون هوى نفسهم، لا يركعون ولا يسجدون ولكن يخدعون أنفسهم بالحرية والأمر في الحقيقة أنهم أصبحوا عبيد أهوائهم وشهواتهم وفقدوا تكريمهم الإلهي. وقال الله تعالى عن المشركين في عبادتهم للأصنام أنهم في الحقيقة ما يعبدون إلا الشيطان تأمل معي: {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا}[النساء: ١١٧]، وتأمل معي في هذا الحديث النبوي الشريف: ((تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ...)) فالنبي عليه الصلاة والسلام هنا سمّى من علّق قلبه بالمال ورفع مقامه وصار بمثابة إلهه يفعل ما يشبع نهمه بالمال ولا يهتم لحلال أو حرام بالعبد، ويجعل أوامر الله في الدرجة الثانية.

ثم أنظر إلى الآية الثانية أعلاه حيث دلّنا الله على طريق واحد لا ثاني له "هذا صراط مستقيم" وهو الصراط الذي نقرأه 17 مرة يومياً في صلواتنا، وما عداه من الطرق باطل! {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: ١٥٣] مهما تعددت وتلبست بالزخرف[1]! الله سمّى طريقه بالنور مفرداً، وما غيره ظلمات تتعدد وتتجدد ليضل الشيطان الناس، لكن يا ابن آدم لا تكن من الذين: {صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} وكن من: {إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}[سبأ: ٢٠].

الإنسانية ما هي؟

 

" كن إنسانياً أولاً، ثم اعتنق ما شئت من الأديان" "ديني الإنسانية" عبارات باتت تتكرر على مسامعنا كثيراً، تبدو خلّابة وجميلة للوهلة الأولى، وبالطبع لا تخلو من محاولات إدخالها في مجتمع عوام الناس بأنها لا تخالف الدين ويأخذون قشورها، وللأسف فقد استقرت في النفوس وشاعت بشكل كبيرٍ والكثير لا يعي أساسها ومآلاتها وما تسببه من خطورة للمسلم وما تسببه من أمراض القلوب!

حسناً ماهي؟ تعددت تعاريفها، ولكنها رؤية للعالم ومركزية يتبناها الإنسان لتقييم الأشياء وتفسير الحياة، وهي منبثقة من الغرب الإلحادي، ولكن اختلافها عن الإلحاد العدمي أنها مطلية بلون الأمل! تدعي الإيجابية والأمل والخير إلخ.

لنرى تعريفها من النشط في حقوق الإنسان ليو ايغوي -ذو الخلفية الدينية المسيحية-، يقول: "تعرفت على فكرة مختلفة عن الحياة، فكرة تتنافى مع التعاليم الجوهرية للدين(الإنسانية) قد يتساءل بعضكم: ما هي الإنسانية؟ هي طريقة للتفكير والعيش التي تؤكد قدرة البشر... لدينا القوة لإحداث فرق في حياتنا... دون اللجوء إلى قوة خارجية".

هل لاحظتم معي؟ (دون قوة خارجية) أي باختصار بالاعتماد فقط على المحسوسات والماديات! دون الغيبيات..أي باختصار شديد بدون الحاجة لله وللوحي! ألم أقل أنها بنت من أبناء الإلحاد؟ حسناً الجمعية الإنسانية الرسمية في بريطانيا في إحدى دوراتها التدريبية التي تعرف بها بمدخل للإنسانية كانت صريحة جداً ووضحت فكرة الإنسانية مع الدين على نقاط: "(العقيدة، الطقوس الدينية، الهوية الدينية، الإرث الثقافي) وذكرت أنه يمكن الجمع بين الإنسانية والطقوس والإرث الثقافي، ولكن من الصعوبة الجمع بين عقيدتك وهويتك الدينية والإنسانية". لنكن واضحين الآن، الإنسانية مثلها مثل الكثير من الأيدولوجيات التي نشأت من رحم الحضارة الغربية بعد حربها مع الدين المسيحي، أي نشأت تبعاً لما عانته الحضارة الأوروبية مثلها مثل التطورية والنسوية والعلمانية والليبرالية إلخ-إن هي إلّا أسماء سموها- أي أن إسقاطها على باقي الثقافات والأديان شيء مضحك، وصاحبه يعاني -وإن لم يعلم- من تحيز للثقافة الغربية ويراها نموذج يطبّق على كل الحضارات، ولا يخفى على عاقل أن هذا كان أساس الإمبريالية الغربية والاستعمار و(الرجل الأبيض) الذي كان له الحق بالسيادة، وكأن الحضارة الغربية لا تملك خصوصيتها التاريخية كغيرها من الحضارات أو بتعبير المسيري: " والسمة الأساسية لكل المشروعات الحضارية السابقة رغم تنوعها واختلافها وتصارعها أنها جعلت الغرب نقطة مرجعية نهائية ومطلقة، أي أنها استنبطت رؤية الغرب لنفسه ولمشروعه الحضاري، وأصبح الغرب هو هذا التشكيل الحضاري الذي سبقنا والذي علينا اللحاق به. فثمة نقطة واحدة تحاول كل المجتمعات الوصول إليها، وثمة طريقة واحدة لإدارة المجتمعات ولتحديد تطلعات البشر وأحلامهم وسلوكهم، أي أنه توجد رؤية واحدة عالمية للإنسان والكون. ومن ثم تم تحول الغرب من بقعة جغرافية وتشكيل حضاري له خصوصيته ومفاهيمه إلى البقعة التي يخرج منها الفكر العالمي الحديث."

ولتتضح أكثر فكرة الإنسانية، هنالك ما يسمى بمعبد الشيطان أسس في الغرب، قاعدته إلحادية وفكرته هي: "تقديس الشيطان الذي كان أول مدافعٍ عن حقوق البشر" لا عبادته حرفياً، لمَ تقديسه؟ قلت أنها ولدت من رحم الحضارة الغربية التي كانت مسيحية، وفي كتابهم المحرف قصة آدم عليه السلام مختلفة قليلاً، فآدم وحواء خلقوا لا يميّزان بين الخير والشر ولا يملكون المعرفة، والرب أمرهم ألا يأكلوا من الشجرة التي هي (شجرة المعرفة) فأغرى الشيطان حواء بالأكل منها فأكلت منها وأعطت لآدم، فغضب الرب منهم وقال: الآن أصبحتم تميزان بين الخير والشر أصبحتم مثلي أنا الإله، وكانت عقوبتهما النزول للأرض وعقوبة حواء الحمل والولادة والخضوع للرجل وعقوبة آدم التعب والشقاء. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.. فكان هنا في نظر المتمردين على المسيحية أن الشيطان هو من منحهم حق المعرفة! قالوا: " فكما كان الرب هو أول سلطة قهرية للإنسان، وقف إبليس كأول منادٍ للمعرفة والحرية لجميع البشر. لقد كان بحق أول ناشطٍ في حقوق الإنسان"

وهذا لا يعنينا كمسلمين، فقد كرّم الله آدم ورزقه القابلية للتعلم وعلمه الأسماء بنفسه، والشجرة كانت شجرة عادية للامتحان، لا معرفة ولا غيرها! وقد قرر الله تعالى بأن يجعل آدم خليفة في الأرض قبل أن يخلقه، لا عقوبة.

بين مركزية الإنسان.. ومركزية الله

لندخل في المهم.. الإنسانية تجعل الإنسان في مركز الكون أي أنه المرجعية في كل شيء، بافتراض أنه يميز بين الخير والشر تماماً ويستطيع الحكم على الأشياء بدون الحاجة لله، وهو من يعطي القيمة للأشياء بحسب قيمتها لديه كإنسان! وفي الحقيقة هذا كلام غير دقيق، لأن تمييز كل الأشياء دون الحاجة لله مستحيل.. وما عند إنسان خير هو عند أخر شر والعكس صحيح، من هنا تتناقض مع ذاتها وخرجت لنا النسبية -وسنأخذ معها جلسة لاحقاً- وتنسب كل الخير للبشر بمفهوم أنه إنساني، وكأن من اخترع القنابل النووية ومن أباد الملايين باسم العلم ومن استحل أراضِ البشر واستعمرهم ومن لوث كوكب الأرض وفجر كائن أخر غير الإنسان! وبما أنّها تأخذ الإنسان كمرجعية، فكل ما يقدسه الإنسان هو مقدس لأن الإنسان قدسه لا لذاته! أي الإنسان هو من يعطيه قيمته! وما اتبعه كثير من البشر يكون محترماً لأن البشر يتبعونه، وما يؤذي مشاعرهم يكون محرماً نقده حتى لو كان حراماً وكبيرة أو كانت فكرة غبية كأن تنتقد الشذوذ الجنسي.

فأغلب الأنبياء تبعاً لمركزية الإنسان لا قيمة لهم لأن متبعيهم قليلون ولأنهم لم يعمروا الأرض مدنياً-الإنسانية تغلو في العمران بناء لإفادته للإنسانية- وتبعاً لوضع نفسها محل الإله، فهي من تشرّع وهي من تحدد ما هو مقدس وما هو غير مقدس، وفقاً لمركزية الإنسان فلا تمايز بين المؤمن والكافر، لا فرق بين المسلم والبوذي، لا فرق بين التقي والفاسق.. المهم ماذا قدمت للإنسانية ممّا تعتبره هي نفعاً! وقد يصل ببعض المتأثرين بهذه الفلسفة بغير وعي غالباً أن يجعلوا الكافر المخترع أفضل من المسلم وأن يترحموا عليه ويعطونه صكاً للجنة مع عبارات مثل: "هو فاد البشرية وقدم ماذا فعلت أنت؟" وكأن الكفر بالله شيء عادي، هنا هم وقعوا في جعل نفسهم مركزية وجعل نفسهم هم من يعطون الأشياء قيمة وبالتالي لا يسمحون لك أن تقول الكافر في النار أو حتى أن تقول أنه كافر، وهي قد حولت الوسيلة لغاية،  أيضاً تجعل التشريعات الإلهية حق للإنسان وخيار له فأن ترتدي المرأة الحجاب هذا حقها وأن تخلعه هذا حقها-بالمناسبة هذا صحيح في الليبرالية لكن غير صحيح في الإسلام- حسناً هل هذا صحيح؟

في ميزان الله الأمر مختلف تماماً، وسأضطر لتفصيل الأمر لأهميته العظمى.

أولا: إيمانك بالله بالضرورة يقودك للتسليم والتسليم يقودك بالضرورة لرفض مبادئ الإنسانية.

إذا آمنت أن الله هو الذي خلقك ولم تكن شيئاً وهو الذي خلق هذا الكون كله وسخره لك بالمنطق ستؤمن أن هذا الإله حكيم وعليم وقادر بالتالي هو الأعلم بأمرك ومصلحتك وأنت عبد له كرمك الله بهذه العبودية وباستخلافك في الأرض، هذا بكل عقلانية سيؤدي إلى أنك ستسلم لأوامر الله لأنه العليم والخالق والخبير والحكيم سبحانه وتعالى، وهنا تأتي حاجة النقل الذي هو الوحي، فالإنسان وإن كان لديه فطرياً نزعة للخير والشر، فهو يكره الظلم ويتوق للعدل، لكنّه لا يستطيع تمييز كل الأشياء لأن عقله يظل مخلوقاً له إمكانياته بعالم الشهادة ولا يستطيع معرفة الغيبيات بل وحتّى معرفة الحكمة في كل شيء، فإنك إن اخترت حكم غير الله أي: حكم البشر المتغير بالمصالح والوقت المستند إلى عقولهم فكأنك ساويت الخالق بالمخلوق ولم تعتد تحتاج للخالق ليعلمك ويريك الصراط المستقيم! لنتأمل معاً آيات القرآن:

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ...أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}[الأعراف: ٥٤]

فالله هو الذي خلقك وهو الذي له أمرك وهو العالم سبحانه عن ما هو خير لك وما هو الحق وما هو الباطل، وحقٌ عليك أن تؤمن وإن آمنت فلنفسك ومن كفر فعليها.

{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}[الملك: ١٤]

تؤمن أن الله اللطيف الخبير العليم الحكيم ثم تقول أن غيره أحكم؟ أن غير شرعه وأمره أفضل؟ أن أتبنى الإنسانية وأساوي بين كل الناس ولا أعظم شعائر الله ولا حرماته، كيف يكون هذا إيماناً؟ أليس هذا كفعل بني إسرائيل والمنافقين؟

لنرجع لتعريف المسلم ومن هو.. الإسلام يعني الإستسلام لله، يعني أنك آمنت بالله ثم آمنت أنه أحكم الحاكمين، تأمل معي هذه الآيات:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا}[الأحزاب: ٣٦]. 

لقد سمّى الله ما سوى طاعته وطاعة نبيه ضلالاً!! والمؤمن ليس له الخيرة إذا قضى الله أمراً، فالله هو الذي يعطي كل شيء قيمته عكس الإنسانية، أن تعصي الله وأنت تعلم أنها معصية ولا تبرر ولا تحللها والأعظم لا ترى أنها (حرية شخصية) فيختلف عن أن تفعلها وترى ذلك كله، فالأول عسى الله أن يتوب عليه {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: ١٠٢]. والشق الأخر فعلوا فعل الذين كفروا من بني إسرائيل وفعل أصحاب السبت الذين كان عقابهم المسخ.. لأنهم افتروا على الله الكذب وتلاعبوا، وفعلت فعلهم حين نقول لك: هذا حرام، هذا حلال، ثم تقول لا أهتم أنا حر! {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ (23) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۖ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَّا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [آل عمران: ٢٣-٢٥].

الله شرط الإيمان باتباع أوامره وأوامر نبيه وأن لا نجد حرجاً في أنفسنا ونسلم تسليماً: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[النساء: ٦٥]

وسأقتبس كلام لجين في هذه النقطة: ((بالعقل والمنطق استدللنا على وجود الخالق اللي نستطيع رؤيته في كل شيء، وبه استدللنا على كماله المطلق وحكمته، واستدللنا على إرساله الرسالات واستدللنا على أن الاسلام دينه الحق، فبالتالي من احترامنا لعقلنا إننا نسلم لأمره

-ودعواهم من الأفتراءات عديمة الأساس اللي بتشكك اللي أساسه ضعيف في نفسه، إنك لما بتسلم فانت بتلغي عقلك، ودا من الافتراء، فبعقلي توصلت لإن الله الحكيم العليم الخبير، فبعقلي لازم هسلم ليه

"وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ قَالُوۤا۟ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ ۝  أَلَاۤ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَـٰكِن لَّا یَشۡعُرُونَ ۝  وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ ءَامِنُوا۟ كَمَاۤ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤا۟ أَنُؤۡمِنُ كَمَاۤ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَاۤءُۗ أَلَاۤ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَاۤءُ وَلَـٰكِن لَّا یَعۡلَمُونَ"[البقرة: ١١-١٣].

-لو دخلت عند دكتور شايف كل شهاداته قدامك والاثباتات انه خبرة وتخصص فهل العقل انك تتبع العلاج اللي هو وصفه واللا لا والله ما اقنعني رأي صاحبي دخل عقلي أكتر، هل دا فعلا عقل واللا غباء؟ ليه بنعمل كدا مع الخبراء في حياتنا بينما علمهم قاصر على ما تعلموا وجربوا، والله اللي خلقك وخلق الوجود وعالم بما خلق وبيده كل شيء أصبح عقلك يحكم على حكمه؟ بأي منطق؟ ايه عقلك دا ايه صفته عشان يكون له حكم على العليم؟ "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"، والآن خلينا نفكر هل دا من العقل أصلا؟ هل من العقل تعرف ان الدكتور خبير وأحسن دكتور في العالم وتقول لا انا بفهم أحسن منه واللا سفه وسذاجة؟ "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ قَلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ" تعتقد بإن الله فعل كل دا وفي الآخر تعتقد إن طريق غير طريقه هو الصح؟ اذا دا مش انعدام العقل يبقى ايه؟

فلا تغركم هذي الدعاوي هم نفسهم معندهمش أساس يقيموا عليه العقل، ليه النتيجة اللي توصل لها عقلك هي الصح وعقلي غلط؟ اللي قتلوا أولادهم خوفا من الفقر، أو اللي قاموا بتطهيرات عرقية وتحسين النسل عقلهم وصلهم لإن هذا أفضل للجنس البشري انه ميكونش فيه معاقين وعالات حسب نظرتهم، كانت دي وجهة نظرهم اللي توصل لها عقلهم، هل عندك أساس تعارضيهم بيه؟ دوكنز لما قال منقدرش نقول عن هتلر انه اخطأ ودا سؤال صعب، لورنس لما قال ان زواج الاخوة مش غلط الخ كان عندهم أساسهم التطوري الإلحادي اللي بنوا عليه دعاويهم حتى لو أساسهم بوهن بيت العنكبوت بس انت دعواك ملهاش أساس أصلا، وبعدين بتقولي عقلك ايه صفة عقلك دي وليه هو المعيار مش عقل غيرك؟ لو عندك جواب مبرهن ع الأسئلة الوجودية يضفي لعقلك شرعية هنا هيبقى لدعواك وزن".

"قُلۡ هَلۡ عِندَكُم مِّنۡ عِلۡمࣲ فَتُخۡرِجُوهُ لَنَاۤۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَخۡرُصُونَ ۝  قُلۡ فَلِلَّهِ ٱلۡحُجَّةُ ٱلۡبَـٰلِغَةُۖ")[الأنعام: ١٤٨-١٤٩])

إن نقضت  هذا فقد أصبحت مثل بني إسرائيل الذين قال الله عنهم : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزيٌ في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} [البقرة: ٨٥] وأصبحت مثلهم حين قالوا: {سمعنا وعصينا...قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين}[البقرة:٩٣].

إنما كان فعل المؤمنين وصحابة النبي الكرام الذين أمرنا الله باتباعهم وقال عنهم: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم}[التوبة: ١٠٠] الله أكبر! قال الله تعالى أنه رضي عنهم وعن من يتبعهم، وماذا قالوا حتى استحقوا هذا وما فعلهم؟ هو عكس ما سردته، قالوا: {سمعنا وأطعنا}[البقرة: ٢٨٥] .

وفي سورة النور يكشف الله لنا فعل المؤمنين حقاً وفعل المنافقين والذين خالطت قلوبهم شعب النفاق! أنظر وتأمل بمن يقول أنه مؤمن اليوم ولكن فعله فعلهم، يقول تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ (48) وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ۚ بَلْ أُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[النور: ٤٧-٥٠]. 

إذا كان الحق مناسباً لأهوائهم جاؤوا فرحين، أليس كفعل كثير من المنسوبين للإسلام اليوم؟ وإذا كان لا يناسبهم، أو نفروا منه؛ ولوا معرضين! ولكن قول المؤمنين مختلف: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}[النور: ٥١-٥٢].

ثانيا: الإنسانية تؤمن بالنسبية وتجعل الحق كالباطل

وهذا منافٍ تماماً للإسلام الدين الحق، فالإسلام قام على عدة براهين وتحدى الله بالقرآن كفار قريش وأهل الكتاب والإنس والجن أن يأتوا بمثله أو يأتوا ببرهانهم على صدق دعواهم.

عند الإنسانية ستسمع جمل تخرج من مسلمين للأسف مثل: "مثل ما أنت ترى نفسك على حق هم يرون نفسهم حقاً!" " لا أحد يملك الحقيقة المطلقة!" "هم يسمحون لكم ببناء المساجد لماذا لا تسمحون لهم ببناء الكنائس والمعابد!"

وهنا هذا الشخص وقع في أشياء كثيرة منها: النسبية، مساواة الحق بالباطل، إنزال مرجعية العلمانية على الإسلام وجعلهم كأنهم واحد، والسفسطة في "لا أحد يملك الحقيقة المطلقة" فقد وقعوا حقاً في أمر عجيب لا يسكت عنه! ولو أنهم تدبروا القرآن لوجدوا الحقيقة، الله قال أنه الحق وأنزل الكتاب بالحق ووصفه بالحق والهدى وما سواه سمّاه ظناً وأهواء واتباع الطاغوت، الله حذر نبيه عليه الصلاة والسلام من أن يكون من الممترين-الشاكين- ووصف أهل النفاق بأنهم من في قلوبهم شك وريب، فكيف تكون مؤمناً هكذا؟؟ إنما سقطت في شباك العدمية.. المهم لنتأمل الآيات:

{ إنّا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً}[البقرة: ١١٩]. {الحق من ربك فلا تكن من الممترين}[البقرة: ١٤٧] . {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: ٢١٣] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ۚ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء، ١٧٠]. {ا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [النساء: ١٧٤-١٧٥]. 

هذه بعض الشواهد فقط، فبالله عليك كيف يتناسب أن تقول أنك مؤمن ثم تقول لا أحد يملك الحقيقة؟ تبعاً للإنسانوية بالطبع كل شيء يندرج تحت (الآراء) لا حق ولا باطل، بل الإنسانية نفسها لا تستطيع إثبات أنها صحيحة، إنما فقط إتبّاع ظن وما تهوى الأنفس، هم لا يفرقون بين دين لديه البراهين ويقيم الحجج على صحته ودين لا يملك هذا لأنهم يؤمنون بالنسبية والحقيقة هذه النسبية غير دقيقة أو كما قال إبراهيم السكران: "إن النسبية هي الأساس الفلسفي للحرية الليبرالية، لكن أفكار المنتصر كثيراً ما تروّج في معلبات فكرية غير صريحة". والحقيقة مقولة " لا توجد حقيقة مطلقة" أو " الحقيقة نسبية" قد رد عليها الإمام ابن حزم منذ مئات السنين حيث قال: ن الشيء لا يكون حقا باعتقاد من اعتقد أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل، وإنما يكون الشيء حقا بكونه موجودا ثابتا سواء اعتقد أنه حق أو اعتقد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان الشيء معدوما موجودا في حال واحدة في ذاته وهذا عين المحال، وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق فمن جملة تلك الأشياء التي تعتقد أنها حق عند من يعتقد أن الأشياء حق، بطلان قول من قال أن الحقائق باطل، وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق، مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل البتة". باختصار من يقول أن الحقيقة نسبية قل له: وعبارتك هذه هل هي حقيقة مطلقة؟ إن قال نعم فقد نقض كلامه، وإن قال لا فالحمد لله رد على نفسه ولسنا ملزمين بها، ثم أشار ابن حزم لنقطة مهمة جداً وهي أن الشيء لا يكون حقاً باعتقاد الشخص بأنه حق..وهذا ما يقوله الإنسانيين اليوم، فمثلاً: لدينا تفاحة حمراء ثم جاء شخص مصاب بعمى الألوان وقال أنا أراها خضراء! هل هذا يغير حقيقة كونها حمراء؟ بالطبع لا والخلل لدى من يراها خضراء لا في التفاحة نفسها!. وأختم هذه الفقرة بمقولة ثمينة للمسيري حيث قال: " إن حالة السيولة الفلسفية التي أفرزت النسبية المطلقة تتنافى مع الوضع الإنساني، فلو لم يكن عند المرء قدر من اليقين لما أمكنه الاستمرار في الحياة".

"هم يسمحون لكم ببناء المساجد لماذا لا تسمحون لهم ببناء الكنائس والمعابد!". جميل، هنا تم الخلط بين المرجعية الليبرالية والإسلامية، ولكي أوضح أكثر أود ضرب مثال شهير جداً أولاً وهو: "الحجاب حرية شخصية" "أنتم تلومون الغرب حين لا يسمحون للمسلمات بلبس الحجاب ولكنكم لا تحترمون حرية من تخلعه عندكم!". رأيته كثيراً الحقيقة وسبق أن رددت على هذا النوع من التغريدات، المهم الجواب يتلخص ب: أولاً: عندما نخاطب غير المسلمين ممن يتبنون الليبرالية وهي تقريباً جميع الدول الغربية، نقول ذلك لهم لأن مرجعيتهم هي الحرية التامة لكل فرد دام أنه لا يضر الأخرين ضرراً مادياً متعدياً، فأن يسمحوا بالعري وكل الفواحش ثم يضيقون على المسلمات ويمنعون ارتداء الحجاب هذا تناقض في مرجعيتهم التي بنوا وعرفوا أنفسهم على أساسها! لكن أن تتحدث مع مسلمين ودول مسلمة الأمر مختلف! كمسلم أنت مؤمن ومستسلم لله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ"١٦٢"} كمؤمن علمت أن الله هو الحق وأنه له الخلق والأمر أو أن هناك خلل في إيمانك..فالطبيعي للمسلمين سيكون الأمر مختلف، هم لا يؤمنون بمرجعية الإنسان والحرية المطلقة -المدَّعاة، وليست مطلقة بالحقيقة- بل المسلم يؤمن أن الحرية في المباحات وهناك ما يسمى حدود الله التي لا يتعداها، والمسلم مرجعيته الوحي ويحكم بها وإلا أصبح فاسقاً وظالماً وكافراً {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة: ٤٤]. 

وتأمل معي الآن كيف أن الكفار في زمن النبي كانوا فقط يريدون التنازل عن(بعض) لا كل الدين! فقط القليل وسنرضى! وقارن هذا بما يفعله الغرب ومن تأثر بهم بأنهم فقط يريدونك أن تتنازل عن جزء من هويتك فقط! لا بأس لديهم في كونك مسلماً، لكن كن مسلماً ليبرالياً علمانياً واتخذ مرجعياتهم بدل القرآن! هم يريدون شخصاً بلا هوية، ومن لا هوية له يسهل تشكيله وتسييره لأنه لا يملك المقاومة! وهنا قال المسيري: "من لا يحتفظ بهويته لا يمكنه أن يحتفظ باستقلاله وبمقدرته على المقاومة...ولعله لهذا حينما جاء المستعمر إلى بلادنا حاول أن يصلح نظمنا التعليمية وأزياءنا ومعمارنا إلى أن نجح في نهاية الأمر في تغيير واقعنا، بحيث أصبح واقعاً متحيزاً له، متحيزاً ضدنا".

قال الله تعالى: { وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: ٤٩-٥٠]. ما سواه حكم الجاهلية، مهما تقدم الزمن وتغيرت المسميات، تأتي أصنام الجاهلية الجديدة وتظل حكم الجاهلية.. أفلا تعقلون؟! وتأمل أرجوك في هذه الآيات شرط أن تنفض عن عقلك كل شيء مسبق! فقط تأمل وتدبر بقلبٍ صادق! هذا كلام ربك رب العالمين! {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}[النساء: ٦٠-٦٣]. إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً!!

 وأنظر أيضاً: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا (68) وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69) ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: ٦٦-٧٠]. أبعد ذلك شك؟ أبعد ذلك تردد وريب؟؟ وحكم الله هو الخير ولو كانت نظرتك قاصرة لا تدرك جُل الأمور؟؟ فماذا بعد ذلك؟

ثم هنالك نقطة مهمة أريد ذكرها وهي قول كن إنسانياً أولاً، من مآلاتها التي ربما لم تخطر على الكثير أنها في جملتها كأنك تقول أن الدين يتنافى مع الإنسانية -بمعنى الصفات الحسنة- وبهذا تطعن في الدين وفي المشرع سبحانه وتعالى!! ديننا شامل ولله الحمد، افتح القرآن وتدبره وستعلم ذلك. أذكر مرة كنت أتحدث مع أختي وقلت: اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا. فقالت: ولا في إنسانيتنا. قلت لها معقبة ولكن الدين شامل للإنسانية وهما ليس منفكان، فقالت: صحيح معك حق!.

وسأرفق جزء من مقال مختصر كتبته سابقاً: "والله يقول لنا  {ولقد جاءهم من ربهم الهُدى} [النجم: ٢٣] ونحن للأسف نرفض هذا الهُدى، ونتبع ما يشرعنه الغرب الذي يجعل كل شيء نسبياً بلا مركزية وما هو خطأ بالأمس صحيح اليوم وما هو صحيح بالأمس خطأ اليوم! وعندنا كتاب الله وشريعته؟ أأفكار سموها خير من حكم الله؟ أنكفر بالحق ونتبع الباطل؟ هل نصبح كبني إسرائيل ونستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ إلى متى سنظل في هذا الانهزام النفسي؟ لا لشيء إلّا لأنهم جعلونا نرى أنفسنا وديننا كما يرغبون! لأنه بطبيعة الحال بعد أن نجحوا في علمنة شتى الأديان والبشر حتى يكونوا دُمى في أيادي تماسيح الرأسمالية، لم يبقى إلّا المسلمون وآخرون يتمسكون بهويتهم ودينهم وتاريخهم ويرفضون الذوبان!

فمتى سننزع هذه الأعشاب الضارة من عقولنا ونعيد محاكمة أفكارنا وفقاً للوحي؟ الله يخبرنا بسورة النجم أن الوحي هو أعلى درجات العلم والحقيقة لأنه أتى من رب المشرق والمغرب! وأن الباقي ظنون وأن الظن لا يُغني من الحق شيئاً! ونرى النتائج والتاريخ يشهد ويتكرر الألم ولا نفكر بأن نتحرر من هذه الأدلجة، نتحرر من عبودية البشر والهوى لعبودية الله خالصة!

تُدخل هذه الأفكار ذات الأرض الإلحادية بشكل مُماع وتتم أسلمتها ونشر شعارات رنانة، لكن من يتعمق سيدرك مع الوقت أنها تتصادم مع مبادئ الإسلام وسيكون عليه الاختيار: إمّا الوحي وإمّا ظنون البشر! وإن اختار الثانية فهو يرى أن رؤية البشر وحكمهم أفضل من حكم الله تعالى سبحانه! وهذا ناجم من خلل في نفسه.

داروين نفسه من أغلب الأيدولوجيات تستند لأرضية نظريته حتى تهرب من الاعتراف بخالق يقول:

"ينتابني دائمًا شك فظيع حول ما إذا كانت قناعات عقل الإنسان، والذي بدوره تطور من عقول كائنات أدنى، تتمتع بأي قيمة أو تستحق أدنى ثقة".

فحقيقة ما الذي يجعل عقلك معياراً للحقيقية على أي أساس وأي برهان؟ لماذا عقلك من يحدد وعقلي لا؟

{أيحسب الإنسان أن يُترك سُدى} [القيامة: ٣٦]

أحسب الإنسان أن الله خلقه عبثاً لا يؤمر ولا يُنهى ولا يوجه ولا يعرف غايته بل وينساها؟ {فتعالى الله الملك الحق} [المؤمنون: ١١٦]."

ثم إن من تأمل بسيرة الخلفاة الراشدين رضوان الله عليهم سيعرف كيف كان التعامل مع أهل الذمة والمعاهدين بشرع الله وبالعدل،فلكم الرجوع في ذلك.

 تعقيب أخير لنقطة الحرية ومفهومها سأضع هذا النص من كتاب زخرف القول: "فالحرية الليبرالية تقوم على ركيزتين أساسيتين: الحرية والفردانية، أو إن شئت اختصرتها في: الحرية الفردية، فالإنسان كفرد حر في ممارسة كل ما يريد ما لم يضر، فما دام سالمًا من الإضرار بغيره فلا ضير عليه أن يمارس ما شاء، فالحرية في هذا التصور هو التحرك في جميع المسارات التي يطمع فيها الإنسان، بشرط ألا يقع منه اعتداء على غيره بقتل، أو سرقة مال، أو غش في بيع، أو نحو ذلك، وما عدا ذلك فهي حرية شخصية لا يحق للنظام المنع منها، ولو كان في ذلك مخالفة لقطعيات الشريعة، ومحكمات الدين.

فالحرية الجنسية مثلاً هي خيار شخصي ما دام قائمًا على التراضي بين الطرفين، ولا يشتمل على أي اعتداء على أحد، وبناءً عليه فلا يحق منع أحدٍ منه.

وفي الحقيقة، فالليبرالية حين تركز على الفردانية وتعلي من شأنها فإنها تفضي إلى التهوين من شأن القيم العامة، لتجعلها متروكةً إلى رغبات الناس وأهوائهم، فمن شاء أن يتحرك في نصرتها فله ذلك، ومن شاء أن يترك الأمر وينصرف إلى همومه الفردية الخاصة فله ذلك أيضًا، فليس في أجندتها السعي في إشاعة الفضيلة والخير بين الناس، بل لا ترى مشروعية الإلزام بشيء من هذا أصلاً.

وهذه الحرية مخالفة لمنهج الإسلام قطعاً، فشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنافي هذا الأمر منافاة تامة، فهي تقوم على إشاعة الخير والفضيلة والإلزام بجملة من الأحكام العامة.

كما أن دائرة المنع في الإسلام لا تقتصر على ما فيه اعتداء على الغير، بل تتسع لمنهيات الشريعة كلها، فدائرة المنع في نظر الشريعة غير محصورٍ في الضرر الواقع على الغير، بل يشمل كل ما يمكن أن يلحق ضررًا بالغير أو بالذات، كما أن الإضرار الممنوع ليس مقصورًا على الضرر الدنيوي فقط، بل يشمل ما يضر بدين الناس ونجاتهم في الآخرة.

فشرب الخمر محرم وممنوع، ولو ادعى أحد عدم الضرر فيها، فدعواه منتقضة بتحريم الشريعة لها، فهي مضرة بلا شك، لكن الإشكال هو في هذا التقصير الفاحش في قياس معامل الضرر وحصره في صورة وحيدة وهي الاعتداء على الغير، ونظرة الشارع أوسع كما مر.

فمفهوم الاعتداء والضرر في النظر الليبرالي يقتصر على ما فيه تعدٍ مادي على جسد أو مال، بينما تسمي الشريعة مخالفة أوامر الله ونواهيه تعدياً واعتداء، كما قال تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) [البقرة: ٦٥] فسماهم الله معتدين بسبب مخالفتهم لنهي الله عن الصيد يوم السبت، وقال سبحانه في قتل المحرم للصيد: (فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم) [المائدة: ٩٤] ويسمي الله في القران مخالفة الأوامر والنواهي بأنه تعدٍ على حدود الله فيقول سبحانه: (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) [البقرة: ٢٢٩].

فالتعدي في الشريعة يشمل تجاوز أوامر الله ونواهيه، وليس خاصاً بما فيه تعدٍ جسدي أو مالي مباشر على الشخص، ولذا عُدَّ من الظلم المحرم ظلم العبد لنفسه، وظلمه لغيره من المخلوقين".

{فماذا بعد الحق إلاّ الضلال} [يونس: ٣٢].


ثالثاً: الأغلبية هي من تحدد الصواب من عدمه، قيمة الشيء تكتسب من عدد متبعيه

الإنسانوية ظاهرياً تقوم على مركزية الإنسان، لكن وكما عقبت سابقاً، لا يستطيعون الاتفاق على مفاهيم محددة فالحقيقة تصبح المركزية هي أهواء الإنسان المؤدية بالحقيقة إلى مركزية الشيطان كما قال الدكتور إياد قنيبي.

حتى ما تظن أنت أنه متفقٌ عليه سأخبرك بالحقيقة أنه لا! يقول أ. إسماعيل عرفة: "ولنعط مثالا آخر، يزعم البعض أن قتل الأطفال هو عملية لا إنسانية لا يختلف على بشاعتها أحد، ولكن هل هذا أمر صحيح؟ لقد أصدرت دولة ميانمار منذ عدة أشهر قانوناً بتجريم كل مسلم يلد ولدين اثنينن في مدة أقل من ثلاث سنوات، فالدولة تعتبر ولادة الطفل المسلم(شراً) لا بد التخلص منه، فإذا كان الإنسان هو المركز والمطلق الذي يرد إليه كل شيء، فلم؛ لا يكون هذا شراً بالفعل؟! وفي نفس السياق؛ فقد منعت، القوات الأمريكية أثناء غزوها للعراق عام ) 2003)منتجات الحاجات المعيشية الأساسية من الدخول إلي الأسواق العراقية لتوفير الطعام والعلاج للأمراض والأوبئة المنتشرة، بعدما فرضت الولايات المتحدة العقوبات على العراق منذ التسعينات، وتسبب ذلك الحصار الاقتصادي بوفاة اكثر من مليون طفل عراقي بسبب سوء التغذية، وهوما كان(خيراً) في نظر القوات الأمريكية الغازية! وبالمثل؛ فإنه في مجزرة حماة بسورية في الثمانينيات، كان جنود النظام يقتحمون المستشفيات والبيوت ويبقرون بطون الأمهات، ويقتلون الأطفال الرضع بحجة أن والديهم سيربونهم ليصبحوا ارهابيين؛ وبالتالي: فإن قتل الأطفال الآن هو في الحقيقة رحمة و(خير) لهم وللوطن السوري!... وأخيراً رغم وفاة ثلاثة ملايين طفل سنويا نتيجة للأمراض وسوء التغذية؛  فإن بعض الاقتصاديين يعتبرون هذا (خيراً) للبشرية لأن الموارد الاقتصادية نادرة وكلما تقلص عدد البشر الأحياء ازدادت فرص نجاة البشر الباقيين! وعلى ما في هذه الأمثلة من فجاجة؛ فإني ذكرتها لأؤكد أن مفهوم الشر هو مفهوم نسبي يختلف وصفه من إنسان لأخر حتى تلك الأمور التي يظن الناس أنه لا خلاف فيها.

وأذيل ها هنا تساؤل طرحه أحد الفلاسفة تعليقاً على الملحد برتاندر راسل عندما قال أنه يميز بين الخير والشر بمشاعره: "وأنا أسأل راسل: تدعو بعض الحضارات إلى أن نحب جيراننا، وتدعو أخرى إلى أن نأكلهم، والاختيار قائم في كل منهما على المشاعر، هل عندك تفضيل لأي منهما؟"

وأنا أقول: الصواب يتحدد عند الإنسانوية بما يتفق عليه الأغلبية.. فمثلاً النازية كانت صواباً بل ومشرعنة بالتطورية التي تقول بتفوق العرق الآري! وما سواه من الأعراق باستثناء الأبيض فهم مجرد زيادة ليس لهم فائدة يجب تطهيرهم عرقياً وتحسين نسل البشرية، كذلك الاستعمار! فاستعمار الأوروبيين للهنود الحمر مبرر وهم البدائيون الأغبياء! كذلك استعمار العرب البربر الهمج! والقائمة تطول.. ولكنه يصبح اليوم شراً وخطأ! وكذلك يتكرر مراراً حسب تغير المصالح وغسيل العقول وما تتبناه الدول من أيدولوجيات.

(الأكثرية تحدد الصواب) هل هذا منطقي وصحيح؟ ماذا لو أن الأكثرية قررت أن إبادة الملايين صحيح؟ لحظة هل يخبرنا الوحي الذي علمنا مسبقاً أنه أعلى درجات العلم واليقين بذلك؟ بالتأكيد ميزان الله مختلف.. فالله جلّ جلاله يخبرنا أنه بعلمه يعلم أن أكثر الناس لن يؤمنوا {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف: ١٠٣]. {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}. {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون}[يوسف: ١٠٦]. {فأبى أكثر الناس إلا كفوراً} [الفرقان: ٥٠].

 بل ولو تتبعت الأكثرية في القرآن ستجدها في الذم وأن أكثر الناس لا يعقلون وأكثر الناس لا يعلمون وأكثرهم كافرون وأكثرهم للحق كارهون! بل تأمل في سورة الشعراء وستجد أنه قد تكرر {وما كان أكثرهم مؤمنين}. لا وزن للأكثرية في ميزان الخالق سبحانه، ولا الحق يحدد بعدد متبعيه، ولا يكون أصلاً برهاناً للحق كثرة متبعيه! بل لما هو حق بذاته! وأكثر الأنبياء متبعيهم قليلاً بل قد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام أنه يجيء النبي يوم القيامة وما معه أحد من قومه! بل وإن قضية المتبعين والانبهار المادي والانغرار بالكثرة كانت هي أسباب الفتن الأساسية لاتباع الحق، أفنكون مثل أعداء الرسل عليهم السلام؟

فقال قوم نوحٍ له: {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادِي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل} [هود: ٢٧] ثم قالوا: {أنؤمن لك واتبعك الأرذلون} [الشعراء: ١١١]. وهذا رد لأصحاب مقولات مثل: "الغرب المتفوق والمتقدم، وأنتم متخلفون عنهم" أتعلم أن فرعون كان متوفقاً ومتمكناً في الأرض ومع ذلك فضل الله بني إسرائيل المستضعفين عليه وأمر موسى عليه السلام بأن يخرجه من الظلمات إلى النور؟ أتعلم بأن قوم عاد كانوا متمكنين أقوياء ووصف الله قوتهم وتمكنهم الحضاري والمعماري، ثم بلغ الأمر بغرورهم أن قالوا: {من أشد منا قوة} وقال الله تعالى لهم: {أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة} [فصلت: ١٥] وخسف بهم وأهلكهم لأن لا فضل لتمكنهم إذ تركوا الغاية العظمى وكفروا بالله! ثم من يقول مثل هذه الجمل بصراحة يملك نظرة ضيقة عوجاء..لأن الله قد ذكر في كتابه العزيز أن مظاهر الإنعام الدنيوي قد تكون استدراجاً فالله تعالى يقول:

((أَفَرَءَيۡتَ إِن مَّتَّعۡنَٰهُمۡ سِنِينَ (٢٠٥)  ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ (٢٠٦)  مَآ أَغۡنَىٰ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ (٢٠٧)  [الشعراء: ٢٠٥-٢٠٧].

و ((قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا (١٠٣)  ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا (١٠٤)  أُوْلَٰئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فَلَا نُقِيمُ لَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَزۡنٗا (١٠٥)  ذَٰلِكَ جَزَآؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوٓاْ ءَايَٰتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦)  [الكهف: ١٠٣-١٠٦]

 

و ((فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ (٤٤)  [الأنعام: ٤٤]

 

و((فَذَرۡهُمۡ فِي غَمۡرَتِهِمۡ حَتَّىٰ حِينٍ (٥٤)  أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ (٥٥)  نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ (٥٦).[المؤمنون: ٥٤-٥٦].

والشواهد كثيرة.. بل إن من يقول ذلك هو يقيم الأشياء بمسطرته العوجاء متأثراً بالإنسانية مرة أخرى.. لأن الله يقول إنه يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب! وأنها لا تساوي عنده جناح بعوضة! فكيف تقيس الأشياء بمسطرتك العوجاء؟

وإن كنا سلمنا لمركزية الإنسان في أن الأكثرية هي من لها الحق في التقرير وكل شيء نسبي، بناءً على ذلك يصبح النبي محمد عليه الصلاة والسلام لا حق له في اعتراض قريش! بل ديموقراطياً وليبرالياً لا شأن له بهم فهذه حريتهم! ويصبح كذلك للنبي لوط عليه السلام من أخبرنا أن الله أنه جعل عاليها سافلها! رغم أنهم كانوا الأغلبية وبمفهوم العالم الحاضر هذه حرية شخصية! وكذلك كل الأنبياء وكل المؤمنين، لكن الله يقول للصحابة رضوان الله عليهم بعد هزيمتهم في معركة أحد: { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}[آل عمران: ١٣٩] عجيب! هم (مادياً) منهزمون لكن الله يخبرهم أنهم الأعلون؟ وذلك لإيمانهم.. فنصر الكفار وتفوقهم من عدمه لا يغني من الحق شيئاً.


رابعاً: الغاية بين الإنسانية والإسلام

من أهم الفروق بين دين الحق ودين الإنسانية هي الغاية.. الغاية العظمى التي خلقنا لأجلها أي: ما دورنا بالحياة؟ لماذا وجدنا وماذا نفعل؟. وفقاً للإنسانوية فالغاية من كل شيء هي رفاهية الإنسان فقط والتمتع في كل الملذات، لا يوجد شيء أخر وراء الحياة الدنيا، الدنيا وفقط؛ لذلك ترى لدى كثيرٍ ممّن تأثروا أو أصابتهم شعبٌ من الإنسانية انبهارهم بالمدنية والتقدم بذاته، والحقيقة أن هذا مؤشر على خلل في العقيدة وأن المسلم قد بدّل وهو لا يشعر المعايير الإلهية بمعايير الثقافات الأخرى.

لكن ماذا يقول لنا القرآن؟ وبكل صراحة { وما خلقت الجن والإنس إلّا ليعبدون}[الذاريات: ٥٦]. 

فالغاية هي تحقيق العبودية أولاً وأخراً، وما سواها هي وسائل لتحقيق عبودية الله ونشر دينه وإنقاذ الناس من النار، استناداً للقاعدة الفقهية: "ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب" ومرة أخرى لنبحر في آيات الله في كتابه الحق.. هل كان ينقص فرعون وقوم عاد وهود حضارات أو تقدم مدني؟ لا.. ونعتهم الله بالضالين والغارقين في الظلمات لأنهم حرموا من تحقيق العبودية والنور الإلهي الوحيد! وبعث النبيين ليخرجونهم من الظلمات إلى النور، فلو كان الغاية هي تعمير الأرض بغض النظر عن الإيمان بالله فلم أرسل الله الرسل؟ هل أرسلهم لموضوع هامشي تعالى الله عن ذلك؟

ولاختصار الموضوع سأجلب نصاً ثميناً لإبراهيم السكران من كتاب مآلات الخطاب المدني، يقول:

"لقد جاء القرآن بشكل واضح بتأسيس مركزية الآخرة في مقابل مركزية الدنيا، هذا الأمر واضح في القرآن بشكل يخجلنا أن نورد شواهده، ولكننا كثيراً ما نحب أن نتجاهل ذلك، ونتعسف في قلب هرم الإهتمامات القرآني.

تدفعنا كثيراً محاولة إرضاء الآخرين إلى عرض القرآن باعتبار أن رسالته الأساسية العمرآن المادي! والحقيقة: أننا نكذب على القرآن ونضعه في موقع لم يأت ليضع نفسه فيه.

لا أبداً لم يأت القرآن بأولوية العمارة المادية، بل جاء لعكس ذلك تماماً، جاء ليؤسس مركزية الآخرة في مقابل مركزية الدنيا، جاء القرآن ليحول الدنيا من غاية إلى مجرد وسيلة.

بل إن بيان القرآن لخطر الدنيا في إضلال الناس عن الله أكثر من بيانه لوجوب عمرانها أصلاً، فالدنيا في التصور القرآني مجرد وسيلة خطرة يجب التعامل معها بحذر، خوفاً من أن تجرفنا عن الحياة المستقبلية اللانهائية في الدار الآخرة.

إن أبرز مبادئ العقلانية تقديم المصلحة المؤبدة على المصلحة المؤقتة، ولذلك جاء القرآن بالتأكيد على هذه الحقيقة العقلية وتعزيز مقتضاها فقدم سعادة الآخرة الباقية المؤبدة على متعة الدنيا الفانية المؤقتة.

ولذلك كان وسيظل ينبوع الانحراف الثقافي-بكل اختصار- الانبهار بالمظاهر المادية من عمران ومدنية وحضارة دنيوية مادية، والزهد في مضامين الوحي من العلوم الإلهية وحقائق الإيمان والغيبيات ومعاملة الله سبحانه وتعالى.

كثيراً ما يشير القرآن إلى أن كل ما على هذه البسيطة من موارد وإمكانيات ليس المراد بها رفاه الجنس الإنساني، وإنّما المراد بها ابتلاء الناس وامتحانهم هل يؤمنون ويقبلون على الله، أم يعرضون عنه؟ كما قال سبحانه: {إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً}[الكهف:٧].

وكشف سبحانه عن وظيفة المعايش المدنية والتمكين السياسي فقال: {ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون} [الأعراف:١٠].

بل ويشير إلى عظمة هذا التمكين المدني وعمقه، فيقول سبحانه: { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدةً فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بأيات الله }[الأحقاف: ٢٦]

فأنظر كيف عرض الله المعايش المدنية باعتبارها نعمة من الله لابتلاء الناس، لا أنّها هي المطلب الشرعي الرئيس، ثم يؤكد سبحانه على الغاية الشعائرية والحسبوية من نعمة التمكين السياسي في موضع آخر فيقول: { الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}[الحج: ٤١].

وحين يعرض الله الصورة الراقية للمؤمن يؤكد أنه ذلك الرجل الذي لا يشغله النشاط الإقتصادي عن الغاية الحقيقية العبادية، وأن الدنيا في يده لا تعظيم لها في قلبه، لأن نظره الحقيقي مربوط بلحظة لقاء الله، فيقول سبحانه: { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار}[النور: ٣٧].

وينبه الله في مواضع كثيرة من الوحي على أنّ المنزلة والمكانة الحقيقية عند الله ليست بالمظاهر المدنية المادية، ولا بالإمكانات الاقتصادية والديموغرافية، فقال: { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى}[سبأ: ٣٧]

وما ذلك كله إلّا لتفاهة الممتلكات المادية في ميزان الله، فهل يا ترى ستكون موازيننا تابعة لميزان الله، أم ستكون لنا موازيننا الخاصة؟!

وقد كشف الله في مواضع كثيرة تفاهة هذه المظاهر المادية من وجوه متعددة، فلا تخلو طائفة من آيات القرآن إلا وفيها التبنيه على حقارة الدنيا وأنها مجرد لعب، ولهو، ومتاع، وزينة، ونحوها من الألقاب، والجامع بين هذه الأوصاف كلها هو كونها لذة مؤقتة.

ويكشف الوحي في مواضع متعددة عن قانون الانحراف في التاريخ، حيث يكاد القرآن أن يربط كل مظهر من مظاهر الخلل العقدي والأخلاقي به، ألا وهو الانبهار بالمظاهر المادية، وتعظيمها وامتلاء القلب بالتعلق بها، وتأمل في واقع الناس اليوم وستجد هذا الناموس القرآني، حيث تكاد أن تجد كل ضلال فكري أو انحراف سلوكي إنّما منشؤه تعظيم الدنيا، كما فيه قوله تعالى: {كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الأخرة}[القيامة: ٢٠-٢١]."

وفي موضع أخر ملخصاً الموضوع قال: "والحقيقة: أن من تأمل وتدبر صادقاً متجرداً تعامل الأنبياء مع المنجزات الحضارية ومخزون العلوم والفنون الدنية في عصورهم، انكشف له منهج التعامل الذي يرضاه الله تعالى لنا في موقفنا تجاه الحضارة المعاصرة...فالنبي بعث إلى الناس وفي عصره أربع إمبراطوريات اقتسمت العالم...وكانت معاهد العلوم فيها شامخة، فضلاً عن مخزون حضاري متراكم من الحضارة المصرية والإغريقية.

بل إن العلوم المدنية قبيل مبعثه بلغت شأناً عالياً في دقائق المعقولات، كقوانين العقل الجوهرية، كقانون الهوية والتناقض والثالث المرفوع، ونظرية الدولة، ودقائق الهندسة، وتعيين بعض القيم الرياضية، وفنون العمارة، والمسرح والشعر والأدب وأصول الطب، وقياس المسافات الفلكية، وتحديد مواعيد الكسوف، واختراع البوصلة والرافعات، وغيرها كثير...وكل هذه العلوم والمكتشفات المدنية كانت معروضة في زمن البعثة النبوية.

ومع ذلك كله، فإن الله تعالى لما بعث نبيه عليه الصلاة والسلام في جزيرة العرب لم يبعثه ليقول للناس: يا معشر العرب! أنتم تعانون من التخلف المدني، ويجب أن عليكم أن تتجاوزوا جفوة عروبتكم، وتتعلموا من الأمم المتقدمة"، ولم يقل لهم: " يجب عليكم أولاً أن تقفوا موقف التلميذ أمام علوم المنطق والطب والفلسفة  والفلك ونحوها، ثم تدعوا الناس!"... كلا لم يحدث ذلك، بل إن الله أخبر نبيه بعكس ذلك تماماً، فقد أخبر نبيه عن القيمة المنحطة في ميزان الله لكل تلك المدنيات التي عاصرت بعثة النبي، ووصفها القرآن بالضلال بكل ما تضمنته قوتهم وعلومهم وفنونهم ومدنيتهم، بل وأخبرنا بأنه يبغضهم ويمقتهم ويكرههم... كما روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عياض المجاشعي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: " وإن الله نظر إلى أهل الأرض؛ فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك"...وشاهد هذه الخطبة النبوية في كتاب الله قوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج النّاس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم} [إبراهيم:1].

فحكم الله على كل البشرية قبيل مبعثه بأنها في ظلمات، وأن التنوير الذي تحتاجه هو نور الوحي...وأكد الله سبحانه وتعالى في موضع آخر أن التنوير الحقيقي هو نور الوحي، كما قال سبحانه: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} [المائدة:16].

وسيبقى من أعرض عن هذا الوحي مرتكساً في ظلماته مهما أوتي من العلوم المدنية، كما قال تعالى: {والذين كذبوا بأياتنا صمٌ وبكمٌ في الظلمات} [الأنعام:39]."

وهنا يجب أن أنوّه على شيء مهم وهو: الانتفاع والانبهار لا تلازم بينهما، أي لا يجب علينا الانبهار والتقديس تبعاً للانتفاع من الخير الذي قدمته الحضارة الغربية، فكان حبيبنا عليه الصلاة والسلام ينتفع لكن لم يمنعه أن يبين ضلالهم، ولم يربي أصحابه على عقدة النقص، بل كانوا يرون أنفسهم بالمنقذين لأن لديهم هذا النور وهذا الذي جعلهم لا يخضعون للحضارات العظيمة ولا يداهنون أهلها!

وأخيراً، إذا نسي الإنسان غايته الحقيقية في هذه الحياة فقد نسيِ نفسه..وأصبح كالأنعام بل أضل سبيلاً.

{ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون} [الحشر:19].

خامساً: المساواة بين كل الناس في كل شيء

الحديث هنا يطول ولا أود الإطالة أكثر، لكن باختصار شديد ومن يريد الإستزادة يرجع لكتاب (مآلات الخطاب المدني).

دعوة معاملة الناس فقط على أساس أنهم ناس بغض النظر عن كل شيء أخر، فيتساوى المسلم والبوذي واليهودي والملحد، يتساوى التقي مع الفاسق والفاجر، وهذا ولو أن به شيئاً من الصحة وهي أن الأصل معاملة الناس بإحسان بالمساواة والعدل-غير المحاربين فأحكامهم مختلفة-، لكن أن نأخذ كل التمييز ونرميه في سلة القمامة ونتحدث من منظور الإنسانية بل ويتم التحسس من لفظ كافر والنفور منه! رغم أن الله هو القائل سبحانه: {هو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمن} [التغابن:2]. فالله العليم الخبير الحكيم هو من قسّم الناس إلى هذه الفئات، تقول لي حسناً هذا تقسيم الله ما شأننا نحن؟ هل تريدين أن نعاملهم بالجور والسوء؟ هذه الأسئلة تخرج في كل مرة يتحدث أحدهم عن هذا، والحقيق أنهم يقعون في مغالطة وأيضاً لا يفهمون المقصد. فأولاً التمييز بين الناس بحسب إيمانهم من عدمه بل بحسب درجات إيمانهم لا يلازم السوء والجور يأمرنا الله بأمر صريح {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8]. ويأمرنا سبحانه: {ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا} [المائدة:8]. 

بل وحتى في حالة الحرب الله نهانا عن الظلم وأمرنا بالعدل وعدم الإعتداء جوراً! فالله لم يحل الظلم في أي موضع وحرمه على نفسه وعلينا، فمن يأخذ من الدين أن البراء يعني الظلم فالمشكلة في فهمه الخاطئ لا في الدين، والشواهد أكثر من أن أدرجها الآن. النقطة الأخرى هي التحجج بأن هذا تمييز لا يخصنا، وهذا خطأ كبير ونقص في التصور وفي العقيدة، فبناءً على هذا التمييز تبنى أحكام التعامل مع المسلم والكافر بل ومع الفاسق والجاهل والمجاهر إلخ، لأن بناء على عدم التمييز يصبح الفاسق الذي يخرب دين الناس أو يتعدى على النبي عليه الصلاة والسلام أو ينشر الفاحشة لا يُنكر عليه لأنه حر والمهم أنه إنسان ويا أخي هذا من حرية التعبير! رغم أن الله تعالى يخبرنا: {وإذا رأيت الذين يخوضون في أياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيره} [الأنعام:68]. بل والمعاملة بالمساواة المطلقة مع العاصِ المجاهر والفاسق وغيرهم تعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالزاني وفقاً للإنسانوية حر ولم يتعدى على غيره لكن أنت بإنكارك عليه تعديت عليه! وأتمنى أن لا ننسى أهم خاصية ميزت أمتنا: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} [آل عمران: 110]. بل أنّ مجالسة المجاهرين والفسّاق كانت سبب للعن بني إسرائيل لأن مآلاته هو التطبيع مع المعاصي وانتشار الفساد في المجتمع كما قال الله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَىٰ كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَٰكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُون} [المائدة: 78-81].

خرج أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل أول ما يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال : لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون إلى قوله : فاسقون ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق ولتقصرنه على الحق قصرا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم". ومن مآلات هذا الخطاب هو تعطيل عقيدة الولاء والبراء، والحقيقة أنها لا تختفي تماماً لأن الإنسان مفطور على الولاء والبراء، ولكن الذي يحدث تغيير لمن يوالي ويبرأ! فيصبح الولاء والبراء على أساس الوطن صحيح، بل تجد أنه لن يستطيع موالاة شخص يسبه أو يسب والديه، لكن إذا كان لله فيصبح تخلفاً وعنصرية! ولا أقول هنا إلا ما قال النبي شعيب عليه السلام: {يا قومِ أرهطي أعز عليكم من الله} [هود: 92].

بل ولهذا شواهد كثيرة في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، الذي قال الله تعالى لنا في شأنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].

فهنا الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه عندما تخلف عن غزوة تبوك، كان في موقفه متهماً بالنفاق وقد قاطعه النبي عليه الصلاة والسلام وقاطعه المؤمنون لذلك، إلى أن أنزل الله عليه توبته لأنه كان صادقاً في التوبة، ولكن حسب المفاهيم الإنسانية، فلا بأس هذا شأنه لم تقاطعوه؟.

وأخيرا: الله هو العدل والذي أنزل الرسل بالكتاب والميزان ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه، لا لنجعل الوحي تحت المحاكمة من أسماء سموهّا فيما اختلفنا فيه! يجب علينا كمسلمين أن نتّبع الهدى ونطهر أنفسنا من اتباع الأهواء، فإني أخاف أن يزيغ الله قلوبنا عقوبة كما فعل مع بني إسرائيل، كانوا يعلمون أن موسى عليه السلام نبي من عند ربهم، كانت معهم الأيات والكتاب ويعلمون أنه الحق، لكنهم اختاروا الزيغ عن الحق؛ أي أنهم مالوا عن الحق وانحرفوا عاقبهم الله بصرف قلوبهم عن الحق.. {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].

{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام:116].

فلندع ظنونهم ولنتبع الحق الذي نزل علينا من ربنا ولنتمسك بحبل الله المنجي! فيوم القيامة لن ينفعنا أحد، الجميع سيتبرأ منك إلا الصالحين الذين كنت خليلاً لهم! يوم القيامة يقف من زيّن لنا سوء أعمالنا ويقول: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:22].

وأقول في النهاية: {كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه} [الأعراف:2].

وأرجو من كل من يقول الشهادتين أن يعمل بوصيتي هذه: أرجوك اقرأ القرآن وتدبره، وادخل عليه وأنت مستشعرٌ أنه كلام الله ورسالة منه ومنهاج يجب العمل به، ادخل عليه بعد أن تعري عقلك من كل الأفكار واللوثات المسبقة التي علقت بك، اقرأه بحرص وسترى ماذا سيفعل هذا الكتاب بك، إن كنت صادقاً في طلب الحق.

وأرجو أن نراجع أنفسنا ونحاسبها دائماً، حاكم أفكارك للوحي يتبين لك الحق من الباطل، يتبين لك الصراط المستقيم من طرق الضلال، لا أن تفعل العكس، الجنة غالية غالية أغلى من أن نفرط بها من أجل دنيا فانية وأيامٍ معدودة! أسال الله لنا الهدى والثبات على الحق.

والحمد لله رب العالمين. إن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان.

 

للاستزادة والتفصيل:

مشاهدة سلسلة (كن عزيزاً بإسلامك) لإياد قنيبي على اليوتيوب.

كتابيّ: مآلات الخطاب المدني وسلطة الثقافة الغالبة لإبراهيم السكران.

كتاب زخرف القول لعبد الله العجيري وفهد العجلان.

كتاب العالم من منظور غربي لعبد الوهاب المسيري.


تعليقات

  1. جزاك الله خيرا ونفع بك

    ردحذف
  2. جزاك الله خير وجعله في ميزان حسناتك يارب

    ردحذف
  3. جزاك الله خيرا وزادك علماً

    ردحذف
  4. ماشاء الله تبارك الله، جزاك الله خيرًا على هذا المقال ذي الأسلوب الواضح والسلس الذي تسربت كلماته إلى عقلي راجية أن تترسخ فيه فيكون تذكرة لي ولغيري بالهدف الأساسي من خلقنا ووجودنا ويجنبنا خطورة الوقوع في الإنسانوية وضلالها وأسأل الله أن يجعل كل كلمة خطتها يدك في ميزان حسناتك ويعلمكِ ما ينفعك وينفعك بما علمكِ ويزيدكِ علمًا.

    ردحذف
  5. اللهم بارك لها وعليها، جزاك الله خيرا

    ردحذف
  6. جزاك الله كل خير ونفع بك وهدى الله المسلمين والمسلمات لما اختلف فيه من الحق وان يردهم الى دين الحق رداً جميلاً وأسأل الله أن لا يحاسبنا بما فعل السفهاء منا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الاستحقاق.. قف وعد إلى الأرض!

عندما أحياني الله.