عندما أحياني الله.

 





" أشعر أن الاثنتي والعشرون سنة الماضية كُنت ميتة وهذه السنة وُلدت حقاً"

هكذا كان تعبيري عن نقطة التحول في حياتي، بداية عيشي مع القرآن، وأقصدها حرفاً حرفاً لا مجرد كلمات، وُلدت مسلمة وحفظت الكثير من السور في المدرسة، قرأت القرآن عدة مرات في كل رمضان وقرأته مرات متقطعة متى ماشعرت بحاجة، حتى أنني في مرة بدأت أحفظ القرآن لكني لم أكمل، لكن ذلك كله لم يكن شيئاً، لدرجة أنني لا أتذكر أنني شعرت بما أشعر به الآن أو تأثرت حقاً إلّا مرة واحدة، ذلك أنني لم آتي القرآن بصدق وحب ونية في التدبر وأخذ طريق كامل منه، ووجدت آية تصِف شعوري هذا بالضبط بل وشعور الكثير ممن ذاقوا هذه الحلاوة:{أوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ}.

كالكثير من الأشخاص، منذ كنت في بداية مراهقتي كنت أود لو أحفظ القرآن، لكني لم أتخذ الخطوة حقاً، كنت أتعذر بكل شيء، وأتناسى وتظل أمنية "ودي لو أحفظ القرآن" ومرت السنوات وأنا لا أزال على هذا حتى تخرجت من الجامعة، وصدقاً لو كنت أعرف شعور نعيم العيش مع القرآن والغرق في بحر من نور كما وصفه جيفري لانج، لما تكاسلت للحظة، لكن الحمد لله الذي هداني وسخر لي أن أتذوق هذه النعمة، بل وأكبر النعم.

مرت سنة بعد التخرج، لا أزال أقضي وقتي في التفاهات وتضييع الوقت، كنت كثيراً ما أتذكر "وفي وقته فيما أفناه" وأشعر بالألم.. ولدنا هنا لغاية العبادة والتقرب من الله ومن أحسننا عملاً، والترفيه جزء من الحياة، فكيف جعلنا الجزء هو الأساس وتركنا الغاية كشيء جانبي هامشي نؤديه كفروض ونكتفي وربما أيضاً بلا أي خشوع وشعور فقط كروبوتات تكرر ذات السور وذات الكلمات..

ما أيقظني حقاً هو سؤال صديقتي لي بعفوية ذات مرة ؛حينما قالت أنها ستراجع مع إحدى صديقاتها القرآن فتسأل لو أود الانضمام لهم، ولكنني لم أكن حافظة لأي جزء أصلاً، أجبتها بهذا ولكنني شعرت بالخجل حقاً من نفسي، ما الذي يؤخرني والله يعطيني كل يوم فرصة جديدة لأتقرب له وليكون لي حجة وشفيع؟ كنت لا أطيق روتيني كاملاً وهذا الفراغ، فأخذت قراراً بأنني سأبدأ بحفظ القرآن والعودة لقراءة الكتب التي خطفني منها الاكتئاب لمدة طويلة

وبالفعل بدأت بالجزء الثلاثون، كانت هناك سور لا أحتاج لحفظها فبدأت من السور التي لا أحفظها.

لا أكذب عليكم حينما أخبركم بأنها فقط سور معدودات من هذا الجزء، قلبت تفكيري رأساً على عقب؛ صححت الكثير من اللوثات الغربية التي أصابت فكري، جعلتني أعيد تشكيل نفسيتي ومبادئي مرة أخرى، مبادئ كنا ندرسها ونتعلمها ولكننا تناسيناها مع الحياة، لأننا نسينا الله وجعلناه شيئاً جانبياً نعرفه حينما نريد التوفيق والنجاح فقط، ونتعبده بلا قلوبٍ وكأننا ننجز واجباً ثقيلاً، حرمنا الله من لذة الإيمان لأننا أدرنا ظهره له "نسوا الله فأنساهم أنفسهم".

أتسائل كيف نتجاهل هذا الشيء العظيم الذي بين أيدينا ومعجزتنا وهو القرآن، أنضمن حياتنا؟ أنضمن أعمالنا؟ حسناً إذا كان كذلك حقاً ما مكانة الله في قلوبنا؟ أهذا التهميش يكون لمن خلقك وأوجدك وسخرلك الدنيا بما فيها ومدك بالنعم التي لن تحصها، كل شيء يجري بأمره إذا قال له كن فيكون، يا الله بعد تأملات طويلة، أيقنت حقيقة لمَ عقاب الإنسان في دينه أشد مصيبة كما نقول في الدعاء المأثور "اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا"

حسناً، هذه الغفلة لا يشعر بها من هو مغموس فيها، لكن سيشعر بقدر هذه الوحشة حينما يخرجه الله منها، حينما يبتليه الله ليعيده له، ليترك كل الدنيا بما فيها ويلجأ للعظيم الخالق الملك المدبر اللطيف الخبير، يا لرحمة الله بنا! نظُن بنظرتنا القاصرة أن البلاء سوء لأننا نرى الظاهر؛ ولأن دائرة همنا صغيرة مربوطة بالحياة الدنيا، لم نوسع آفاقها لتصل إلى عرش الرحمن، لكن نكتشف بعدها كم كان البلاء رحمة وكان سبب إنجائنا من شيء ما، سبب فتح باب آخر، سبب رجوعنا إلى الله وهذا الأعظم! سبحان القائل "وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم"

بالنسبة لي فقد عشت هذا البلاء الذي كان سبباً في فتح هذا الباب لي، باب العودة إلى من خلقني وفطرني، بالرغم من أنني عشت فترة طويلة بأقسى الآلام، وأبشع الأفكار، كنت حقاً غارقة في الظلمات ولا يخفى على أحد جرب الاكتئاب هذا من قبل، حسناً لم يكن هو لوحده، فقد تعرضت لظروف قاسية وقاهرة جعلتني أترك كل شيء كنت ألجأ له سابقاً ويستطيع إشغالي، حينما رأيت كل شيء مغلق في وجهي وضاقت بي الأرض بما وسعت! لففت شرشف صلاتي ووضعت السجادة وصليت وبدأت أدعو الله.. سبحانك يا الله "وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا"

الله أقرب إلينا من حبل الوريد.. لكن نحن من نختار هل سنكون شاكرين أم كافرين، الله جل وعلا يقول في الحديث القدسي الذي هو أحب حديثٍ إليّ؛ لأنني عشت هذا الشيء بكُلِّ مافي " وإن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، وإن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة "

حقاً لا أعرف كيف أعبر عن مدى حبي لهذا الحديث، عن مدى التماسي لحب الله فيه ورحمته وقربه، هو قريب أنت اتخذ الخطوة فقط! رأيت هذا في حياتي حينما بدأت بطريق القرآن، رأيت كم أنعم الله علي بفضله وهداني في أشياء كثيرة وصححت أفعالاً كثيرة كنت أفعلها، منحني القوة،شعرت بلطفه ورحمته وجبره.

ثم بعد هذا كله، قلتها لصديقتي وأعيدها كل مرة: لو أخبروني بأن أعيش تلك الفترة مجدداً وأمر بكل الذي مررت به مجدداً، الذي كنت أود الموت هروباً منه، سأقول نعم.. نعم إذ كان في النهاية سيقودني إلى ما أنا عليه الآن، نعم لأنني ولدت من جديد، ولأنني في أعظم نعمة، نعمة الهداية والقرب من الله، نعمة الامتلاء الروحي، لم أعد أفكر بالماديات كثيراً كما كنت أفكر قبل ذلك والذي قادني للسخط في بعض المرات، لأنني وسّعت آفاقي ودائرتي، يذكرنا القرآن بحقيقة الحياة الدنيا ويذكرنا بغايتنا وحياتنا الحقيقية "يقول ياليتني قدمت لحياتي" الحياة هنا حياة الآخرة؛ الحياة التي للأسف كثيرٌ يفتن بالدنيا ويظن أنه سيخلد وأن الغاية تحصيل كل ما يريد هنا، لذلك تجده يسخط سريعاً، لذلك تجده بحزن وفراغ دائمين، لأنه نسي الغاية، لم يرمم عقيدته لم يتدبر القرآن.

قالت صديقتي مرة تتحدث عن حديث المؤمن " يكره أن يرجعَ إلى الكفرِ بعد إذ أنقذه اللهُ منه كما يكره أن يلقى في النارِ" وتحكي أننا ولدنا مسلمين بفضل الله ونظن أنه لا يعنينا، لكن بالحقيقة نشعر به، وهذا صحيح وهذا ما شعرت به أيضاً وهذا معنى كلامي سابقاً بأني سأعيد كل شيء مرة أخرى إذا كانت العاقبة هي القرب من الله، هي مشاعر قد لا يحس بعظمتها إلّا من تذوقها وجرب نعيمها ويأتيني نص كان يقول "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف"

وحقاً كم أود وبشدة أن يشعر الجميع بما شعرت به، أود لو تصل إليهم مشاعري هذه رغم أنها لن تصل كاملة حتى تعيشونها بأنفسكم.

حسناً نعود لجزء عم؛ وأنا في أثناء الحفظ، المختلف عن مما سبق أنني كنت أتدبر، أقرأ التفاسير وأبحث عن أسباب النزول إن وجدت وأقرأ في سير النبي والصحابة في آن واحد، حتى أحقق أقصى استفادة، لأن وكما قال إبراهيم السكران في كتابه الطريق إلى القرآن " قراءة واحدة صادقة لكتاب الله تصنع في العقل المسلم مالا تصنعه كل المطولات الفكرية بلغتها الباذخة...هذا القرآن حينما يقرر المسلم أن يقرأه بتجرد فإنه لا يمكن أن يخرج به بمثل مادخل عليه، هذا القرآن يقلب شخصيتك ومعاييرك وموازينك وحميتك وغيرتك وصيغة علاقتك بالعالم والعلوم والمعارف والتاريخ، خصوصاً إذا وضع القارئ بين عينيه أن هذا القرآن ليس مجرد معلومات يتعامل معها ببرود فكري، بل هو رسالة تحمل قضية ودوياً. " وصدَق.

حسناً يبدو أنكم لاحظتم أن هذا كله شعرت به وأنا لا أزال في جزء عم لم أختمه حتى! ولكنها كانت إنقلابة عظيمة، الكثير من السور كنت وكأنني أقرأها لأول مرة بكل جدية، وفي سورة الفجر قعدتُ أبكي حينما وصلت للآيات "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن، كلا..." أشياء كثيرة هنا لامستني، ذكرتني وكأن القرآن نزل يخاطبني، وكأنه يقرأني لا أنا من أقرأه! كيف أجد في كل سورة شيء يصف حياتي، شيء ينصحني، شيء ينهرني، شيء يذكرني، وهذا من معجزات القرآن..فقط تحتاج إلى قلب صادق ولن يخذلك الله.

وكلمّا أتقدم يزيد إيماني ويقيني وتتغير فيني الكثير من الأشياء، سبحانه القائل "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" و "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" و "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" ذكرت كلمة ذكر وتذكير كثيراً في القرآن، لأن هذا الأساس، فقد نتعلم ونعرف يقيناً أشياء كثيرة لكن مع الإنشغال بهموم الدنيا ومع الفتن والملهيات نتناسى؛ لذلك نحتاج هذا القرآن للذكرى، لإعادة ترميم كل ما أفسدته الحياة،لإعادة إحياء هذا القلب المحتضر الذي يحتاج للارتواء من النور الإلهي.

أصبحت بعد ذلك أشعر بالجوع لأتقدم أكثر، يعتريني الشوق لأتعلم وأتدبر المزيد، أتقطع شوقاً للعيش مع هذا القرآن، فلم يعد يهمني متى أختمه كاملاً، جل همي أصبح أن أعيش معه، كل يوم أتعلم أكثر، كل يوم يزداد إيماني كل يوم يلهمني تساؤلات ويرد عليها، كل يوم أشعر بالارتواء ولكني لا أرتوي ولا أكتفي، فالعيش مع القرآن هي جنة الدنيا ولكن قليلاً ما ندرك، بعد هذا كله أصبحت كثيراً ما أنبه أننا يجب أن نقرأ القرآن بتدبر ومعرفة لا لمجرد الأجر، فكيف نضيع هذه النعمة العظيمة، كنت أود من الكل أن يشعر مثلما أشعر.

وقد قلتها سابقاً أيضاً، مما لاحظته أنه بمجرد بداية حفظي وتدبري للقرآن، لم يكن علي أن أبذل مجهوداً حتى أترك ذنوباً عديدة أو أقلل منها، أو حتى أقوّم الكثير من تصرفاتي وأفكاري، الحقيقة أنني أصبحت أكثر حياءً من الله وكيف لا أكون؟ نعم لا زلت أملك الكثير من الأخطاء والذنوب ولا زلت أرجو الصلاح والهداية، لكنني كنت أتهاون بكثير من الأشياء مثلاً، فأصبحت كلما هممت لفعلها شعرت بصراع وحياء من الله وتركتها، كنت لا ألقي بالاً لكلماتي وأثرها وأي أبواب تفتح على الناس، أصبحت أخشى هذا جداً وأراجع كلماتي ومواضيعي وأثري ألّا يكون سيئاً، ولا زلت أَمة لله أصارع نفسي وشهواتي، وكيف لا يفعل حافظ القرآن هذا إن لم يعمل بما يعلم؟ ما الفائدة من علمه وحفظه؟ الشيء العجيب الذي لاحظته أيضاً كما ذكرت من قبل، حينما أصبحت أستمع للقرآن يومياً حتى أحفظ مايجب علي حفظه، أصبح قلبي مليئاً بكلام الله حيث أصبح لا يوجد مساحة كبيرة لغيره، أياً كان سواء ملهيات الدنيا، أو المحرمات، سابقاً كنت أردد دائماً كلمات الأغاني التي أسمعها، والآن أصبحت أردد الآيات التي أحفظها تلقائياً، علمت وقتها معنى (قلبك بما تملأه )وأنه لا يحتاج لهذا الجهد، وعرفت معنى زاحم المعاصي بالطاعات، لأنه وما أن تملأ قلبك بالله، فسيكون سهلاً ألّا تجد مكاناً لسواه، وعلى مقدار ما تملأه سيبقى النصيب لكل شيء آخر، هذا كلام سيعرفه حق المعرفة من جربّه أيضاً، فأنا جربت ملأ قلبي بالدنيا وليس شرطاً أن أقصد المحرمات، وأنا أيضاً لا أحرم المباح ولا أشوهه، إنما النقطة كما قلتها من قبل، أننا نجعل الغاية هي الهامش والملهيات والمباحات هي الأساس، وهذا هو الخطأ، أن ننسى الله.

والآن أصبح في صدري بفضل الله جزئين ولا زلت أتوق للباقي وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل القرآن.

ولا بد من أن تحصل الانتكاسات، ولا بد من الفتور، لكن لا نجعله باباً للشيطان للرجوع مرة أخرى إلى حالنا فهذا ما يود، وأعلم أن الإيمان يزداد بالطاعات وينقص بالمعاصي، فكلما لم نزاحم المعاصي بالطاعات أتانا الفتور والنكسة، ولكن إن الله يحب التوابين ووعد الأوابين بالجنة ورحمة الله واسعة وباب التوبة لا يغلق حتى تشرق الشمس من المغرب، ودائماً كلما أحسست بالحياء من ذنوبي التي أعود إليها بعد توبتي وبأنني لا أستحق التوبة وألا استحي من الله؟ أتذكر جملة للبصري "ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه فلا تملوا الإستغفار" ونعم أنا لا أستحق ولكن لدي رب رحيم رحمته أوسع من ألا تشملني

والحمدلله أن لنا رب رحيم تواب غفور.

وأخيراً لا تنسوا سؤال الله إعانته على عبادته وشكره، ولا تغتروا بأعمالكم وتيسير الله لكم وهداه ف "لولا فضل الله عليكم ورحمته مازكى منكم من أحد ابداً"

هذه كانت فضفضة ومشاعر لتجربة أحببت أن أشاركها وصلى اللهم وبارك على نبينا محمد💓.

كُتب: 2 أُغسطس 2021 م.

تعليقات

  1. جزاك الله خيرا
    ونعم اعرف ذلك الشعور اللذيذ الحمدلله الذي سقاني هذا الشعور

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الإنسانوية.. مركزية الطاغوت المتأنسن.

الاستحقاق.. قف وعد إلى الأرض!